عند تَصفُّح أي كتاب نجده في الغالب يتسلسل في الفكرة والمعلومة من البداية  حتى النهاية،  ولكن من يتصفّح القرآن الكريم يلاحظ أنّ اكتشاف التسلسل يحتاج إلى تفكر وتدبر

ويلحظ أنّ من يعتاد تدبره تنشأ لديه منهجيّة في التفكير والاستنباط. وإذا وجدت هذه المنهجيّة أمكن أن يوجد الإنسان المبدع. وكل من يتعمق في تدبّر القرآن الكريم ودراسته يلمس الترابط بين معاني كلماته، وجُمله، وآياته، بل وسوره

        إذا كان القرآن الكريم قد طوّر منهجيّة التفكير  لدى الصحابة والتابعين  وأتباعهم…فلماذا لا يؤثر اليوم في منهجيّة التفكير لدى كثير من المسلمين، والذين  يتلونه صباح مساء؟

يندر أن نجد من يقرؤه متدبراً لمعانيه، متفكراً في مُشكلاته؛  إذ لا تتشكّل منهجية التفكير لدينا إلا عند تسريح الفكر في معانيه، وتراكيبه، وأساليبه، وتصريفاته

حتى يتحقق الأثر المنشود على مستوى مناهج التفكير، لا بد أن نضيف إلى تلاوة القرآن الكريم التدبّر، بل لا بد من تقديم التدبر على التلاوة، والفهم على الحفظ

 هذا معاوية، رضي الله عنه، يدخل عليه عبد الله بن عباس، فيقول  معاوية: “لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فلم أجد  لنفسي خلاصاً إلا بك”. ويعرض عليه آية من الآيات التي استشكلها،  فيبيّنها عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما 

المتدبّر يلاحظ أنّ الآيات المكيّة غالباً ما تتسم بالقصر، في حين أنّ الآيات المدنية، إجمالاً، تتسم بالطول النسبيّ

ومعلوم أنّ التركيز في المرحلة المكيّة كان على الجانب العَقَديّ، وهذا يعني أنّ طرح العقيدة يحتاج إلى الأفكار المركّزة والسريعة، بعيداًَ عن التطويل والتفريع

في سورة الإخلاص، مثلاً،  يلاحظ أنها شعار واضح، ورسالة سريعة وحاسمة، تجلجل بعقيدة التوحيد:  قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد 

عند تدبر القرآن الكريم نقوم أولاً بتدبر الآية، فإذا فهمنا معانيها يصبح من السهل علينا بعد ذلك أن نربط بين آيةٍ و أخرى. وبعدها يفترض أن نلحظ أنّ آيات السورة جاءت في مجموعات،  فإذا فُهمت معاني المجموعة الأولى، ثم فُهمت المجموعة الثانية، أمكن أن نربط بين معاني المجموعات. وبعد أن ننتهي من فهم سورة كآل عمران، مثلاً، نقوم بتدبر سورة النساء، فإذا فهمناها؛ كلمات وجُملاً، وآيات، ومجموعات، أصبح بإمكاننا أن نربطها جميعاً بسورة آل عمران التي تسبقها. ولا يسهل علينا أن نربطها بسورة المائدة، التي تليها، حتى نتدبر سورة المائدة أيضاً، وذلك في مستوى الكلمات، والجمل، والآيات والمجموعات؛ فكمال الفهم للسورة الأولى، و كمال الفهم للسورة الثانية، يؤدي إلى استكشاف الروابط والصلات بين السورتين، وهكذا… وتكون المفاجأة أن نكتشف أنّ القرآن يفسر القرآن، ويتجلّى لنا بناءاً متكاملاً متراصاً. وسيبقى الإنسان ينظر في تفاصيل هذا الكتاب العظيم في محاولتهِ لتصوّر البناء الكلي في صورة أفضل، كما يفعل وهو يحاول أن يفهم الكون


 من المناسب أن نلفت الانتباه إلى الآتي 

 القول بتكرار القصة القرآنيّة لا يعني أنه يتم تكرارها  تفصيلياً ، بل قد تزيد أو  تنقص في بعض التفاصيل والحيثيّات


 تختلف السياقات التي يتكرر فيها القَصص القرآني، مما يعني أنّ المعنى المستفاد  يختلف باختلاف السياق


تُستبدل بعض المفردات أو الجُمل بغيرها، ويكون تقديم وتأخير في الألفاظ والجمل،  ويختلف الجَرْس، وتختلف الموسيقى، وتختلف فواصل الآيات


 واضح أنّ أهداف القصة القرآنية يغلب أن تختلف عن أهداف القصة في كتابات البشر،  من هنا تتعدد المقاصد عند تكرار القصة


إن مثل هذا الأسلوب في التكرار يطوّر في منهجيّة  التفكير لدى المتدبّر، لأنه يلاحظ الأنماط المحتملة، والصيغ التي يمكن  أن تتعدد، ثم يلاحظ التغييرات المطلوبة لتحقيق الانسجام مع السياق؛ من حيث المعنى  والجوهر، ومن حيث الشكل البلاغي، أي الثوب الذي لا بد أن تتجلى فيه المعاني. ثم هو  يلاحظ البدائل الممكنة من أجل خطاب مؤثر ومنتج 


http://www.islamnoon.com/Nashrat/quran.htm

تم عمل هذا الموقع بواسطة