ما رأيتُ أحدًا يريد بالعِلم وجْه الله عز وجل غير هؤلاء الثلاثة: عَطَاء وطاووسُ ومجاهد
هذا التابعِيّ الجليل كان مُعاصِرًا لِلخليفة الأمَوِيّ سُلَيمان بن عبد الملك، الذي يقول عنه المؤرِّخون: إنّهُ خليفة المسلمين، وأعْظمُ مُلوك الأرض
سُليمان بن عبد الملِك يُؤدِّي فريضة الحجّ، وهو في بيت الله الحرام, حاسِرَ الرأس، حافِيَ القدَمَيْن، ليس عليه إلا إزارُهُ، ورداء، شأنُهُ كَشَأن أيّ حاجٍّ من المسلمين، ومن خلْفِهِ ولداهُ، وهما غلامان كَطَلْعَة البدْر بهاءً، وكأكْمام الورْد نظارةً وطيبًا، وما إن انتهى خليفة المسلمين، وأعظمُ مُلوك الأرض من الطَّواف حول البيت العتيق، حتى مالَ على رجلٍ من خاصَّتِهِ، وقال: أيْن صاحبكم؟ فقال: إنَّهُ هناك قائمٌ يُصَلِّي، فاتَّجَهَ الخليفة، ومن ورائهِ ولداهُ إلى حيثُ أُشير إليه، وهمَّ رِجال الحاشِيَة أنْ يتْبعوا الخليفةَ لِيَفْتحوا له الطريق، ويدْفَعُوا عنه أذى الزِّحام، فثنّاهم، وقال: هذا مقامٌ يسْتوي فيه الملوك والسُّوقَةُ, يسْتوي فيه الحاكمُ والمحكوم، والقويّ والضعيف، والفقير والغنيّ
يقول هذا الخليفة: ولا يفْضُل فيه أحدٌ على أحد إلا بالقَبُول والتَّقوى، ورُبّ أشْعَثَ أغبر قَبِلَ على الله فتقبَّلَهُ بِمَا لمْ يتقبَّل به المُلوك، ورُبَّ أشْعثَ أغبر قدم على الله في بيته الحرام، فقَبِلَهُ اللهُ بما لمْ يتقبّل به الملوك
ثمَّ مضى هذا الخليفة نحو هذا الرجل، فوجدَهُ لا يزال في صلاته، غارقًا في ركوعِهِ وسُجودهِ، والناس جُلوسٌ وراءهُ، وعن يمينه وشمالهِ، فجلسَ الخليفة حيث انتهى به المجلس، وجلس معه ولداهُ، وطفِقَ الفتيان القرشِيَّان يتأمَّلان ذلك الرجل الذي قصَدَهُ أمير المؤمنين، وجلسَ مع عامَّة الناس ينتظرُ فراغهُ من صلاتهِ, مَن هو هذا الرَّجل؟ قال: فإذا به شَيْخٌ حبَشِيّ، أسْوَدُ البشَرَة، مُفَلْفَلُ الشَّعْر، أفْطَسُ الأنف، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْوَد, ولمَّا انتهى الرجل من صلاتهِ مال بِشِقِّه على الجِهَةِ التي فيها الخليفة، فحيَّاهُ سليمان بن عبد الملِك، فرَدَّ التَّحِيَّة بِمِثلها، وهنا أقْبَلَ عليه الخليفة، وجعلَ يسْألهُ عن مناسِك الحجّ, مَنْسَكًا منْسكًا، وهو يفيضُ بالإجابة عن كلّ مسْألة، ويُفصِّلُ القَوْل فيها تفْصيلاً، لا يدَعُ سبيلاً لِمُسْتزيد، ويُسْنِدُ كلَّ قَوْلٍ يقولهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ولمّا انتهى الخليفة من مُساءلَتِهِ جزَّاهُ خَيْرًا؛ أيْ قال له: جزاكَ الله خَيْرًا، وقال لِوَلدَيْه : قومَا فَقامَا، وقام الثلاثة نحوَ المسْعى، وفيما هم في طريقهم إلى المسْعى بين الصَّفا والمروَة سمِعَ الفتَيان من يقول: يا معْشَرَ المسْلمين, لا يُفْتِي الناسَ في هذا المقام إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لمْ يوجَد فَعَبْدُ الله بن أبي نجِيح، فالْتَفَتَ أحدُ الغلامَيْن إلى أبيهِ، وقال: كيف يأْمُر عامِلُ أمير المؤمنين الناس بِأَن لا يسْتفْتُوا أحدًا إلا عطاء بن أبي رباح وصاحِبِهِ، ثمَّ جئنَا نحن نسْتفتي هذا الرجل الذي لم يأْبَه للخليفة، ولمْ يُوَفِّهِ حقَّهُ من التَّعظيم؟ .
فقال سليمان لِوَلدِهِ: هذا الذي رأيْتَهُ يا بنيّ، ورأيْتَ ذُلَّنا بين يدَيْه هو عَطاء بن أبي رباح, هو نفسهُ صاحبُ الفتيا في المسجد الحرام, ووارِث عبد الله بن عبَّاس, ثمَّ أرْدَفَ يقول: يا بنيّ، تَعَلّم العِلْم، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع، وينْبُهُ الخامِل ، ويَعْلو الأرِقَّاء على مراتب المُلوك
كان عطاء بن رباح عبْدًا ممْلوكًا لامرأةٍ من أهْل مكَّة، غير أنَّ الله عزّ وجل أكْرمَ الغُلام الحبشيّ بِأَنْ وضَعَ قدَمَيْه مُنْذ نُعومة أظفارهِ في طريق العِلْم
جعَلَ قِسْمًا من وقْتِهِ لِسَيِّدَتِهِ، يخْدمها أحسنَ ما تكون الخدمة، ويؤدِّي لها حُقوقها عليه أكْمَلَ ما تؤدَّى الحقوق، وجَعَلَ قِسْمًا من وقْتِهِ لِرَبِّه، يفْرُغُ فيه لِعِبادتِهِ، أصْفى ما تكون العبادة، وأخلصَها لله عز وجل، وجعلَ قِسْمًا ثالثًا لِطَلب العلم، حيث أقْبلَ على منْ بقِيَ حيًّا من أصْحاب رسول الله، وطفِقَ ينْهَلُ من مناهلِهم الثَّريّة الصافيَة، فأخذ عن كبار الصحابة كأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم رِضْوان الله تعالى عنهم، حتى امتلأَ صدره علمًا وفقْهًا وروايةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم
ولمَّا رأتْ السيّدة المكيّة أنّ غلامها قد باعَ نفسهُ لله، ووقفَ حياتهُ على طلب العلم، تخلَّتْ عن حقِّها فيه، وأعْتَقَتْ رقبَتَهُ تقَرُّبًا لله عز وجل
حينما أعْتَقَتْهُ سيّدتَهُ اتّخذ عطاءٌ من بيت الله الحرام مُقامًا له، فجعلَهُ دارهُ التي يأْوي إليها، ومدرستَهُ التي يتعلَّمُ فيها، ومُصلاّهُ الذي يتقرَّب إلى الله تعالى فيه، حتى قال بعض المؤرِّخين: كان المسجد الحرام فِراشَ عطاءِ بن أبي رباح نحْوًا من عشرين عامًا
وقد بلغَ هذا التابعيّ الجليل منْزلةً من العِلْم فاقَتْ كلَّ تَقْدير، وسمَا إلى منزلةٍ لمْ يَنَلْها إلا نفرٌ قليل، فقد رُوِيَ أنَّ عبْد الله بن عمر رضي الله عنهما أمَّ مكَّة معْتَمِرًا، فأَقْبَلَ الناس عليه يسألونهُ ويسْتفْتونَهُ، فقال
إنِّي لأعْجبُ لكم يا أهْل مكَّةَ، أتَجْتمِعون عليّ لِتَسْألوني عن أسئلةٍ كثيرة ، وفيكم عطاء بن أبي رباح
وصَلَ هذا التابعيّ الجليل إلى ما وصَلَ إليه مِن عُلُوّ في مقامه، ومن رُتبةٍ عاليَةٍ في علْمِه، بِخَصْلَتَيْن اثْنَتَيْن؛ الأولى أنَّهُ أحْكَمَ سلْطانهُ على نفْسِهِ، فلَمْ يدَعْ لها سبيلاً في أنْ ترْتَعَ فيما لا نفْعَ له الخصْلة الثانِيَة؛ أنَّهُ أحْكمَ سُلطانهُ على وقْتِهِ، فلمْ يهْدرهُ في فضول الكلام والعمل, فلمْ يسْمح لِنَفْسِهِ أن يُمضِيَ وقتًا في ما لا طائِلَ منه
حدّثَ محمَّدُ بنُ سُوقَة جماعةً من زُوَّارِهِ، قال
ألا سْمِعُكم حديثًا لعلَّهُ ينفعكم كما نفعَني؟ فقالوا: بلى، قال: نصَحَني عطاء بن أبي رباح ذاتَ يومٍ، وقال: يا ابْنَ أخي، إنَّ الذين من قبلنا كانوا يكرهون فُضول الكلام، قلْتُ: وما فُضول الكلام عندهم؟ قال: كانوا يَعُدُّون كلّ كلامٍ فُضولاً ما عدا كتاب الله عز وجل أن يُقرأ، وأن يُفْهم، قال تعالى
ثمَّ قال: أما يسْتحي أحدُنا لو نُشِرَتْ عليه صحيفَتُهُ التي أمْلاها صَدْر نهارِهِ، ووجدَ أكْثرَ ما فيها ليس من أمْرِ دينه، ولا مِن أمْر دُنياه،
من هؤلاء الذين انتفَعُوا بِعَطاء بن أبي رباح؟ قال: انْتَفَعَ به أهل العِلم المتخَصِّصون، وأربابُ الصِّناعة المحترفون، وأقوامٌ كثيرون غير هؤلاء
قال أبو حنيفة بن النعمان: أخْطأْتُ في خمسة أبواب من المناسك بِمكَّة، فَعَلَّمَنيها حجَّام ، وذلك أنَّني أردْتُ أن أحْلِقَ لأَخْرجَ من الإحرام، فأتَيْتُ حلاَّقًا، وقلتُ: بِكَم تحْلق لي رأسي؟ فقال الحجَّامُ: هداكَ الله، النُّسُك لا يُشارطُ عليه، اِجْلس ثمَّ ادْفع ما تريد، وكانت هذه مخالفة، لأنّ النُّسُك لا يُشارط عليه، ولا يُساوَم، قال: فَخَجِلْتُ وجلسْتُ، غير أنَّنِي جلسْتُ منحرفًا عن القِبْلة، فأَوْمَأ إليّ بِأنْ اسْتقبِلِ القِبْلة، ففعلْتُ وازْدَدْتُ خجلاً على خجلي، ثمّ أعْطيتُهُ رأسي من جانبي الأيْسَر لِيَحْلقهُ، فقال: أدِرْ شِقَّك الأيْمن، فأَدَرْتُهُ، وجعَلَ يحْلِقُ رأسي، وأنا ساكتٌ أنظر إليه، وأعْجبُ منه! فقال لي : ما لي أراك ساكتًا؟ كَبِّرْ، فجَعَلْتُ أُكبِّر حتى قُمْتُ لأَذْهب، فقال: أين تريد؟ فقلتُ: أريد أن أمضي إلى رحلي، فقال: صلِّ ركْعتين ثمَّ امْضِ إلى حيثُ تشاء قال: فصلَّيْتُ ركْعتين، وقلتُ في نفسي: ما ينبغي أن يقعَ مثلُ هذا مِن حجَّام، -ما هذا الحجَّام؟ خمسة أخطاءٍ صحَّحَها لأبي حنيفة, شيخُ الفقهاء, قال: لا يقعُ هذا مِن حجَّامٍ إلا إذا كان ذا علْمٍ- فقلْتُ له: مِن أيْنَ لك ما أمرْتني به من المناسك؟ فقال: لله أنت، لقد رأيْت عطاء بن أبي رباح يفعلُهُ، فأخذْتُ عنه، ووجَّهْتُ الناس إليه، فكان الحجّام تلميذَ عطاء بن أبي رباح
أقْبلَت الدنيا على عطاء بن أبي رباح، فأعْرض عنها أشدّ الإعراض، وأباها أشدّ الإباء، وعاش عمرهُ كلَّه يلبسُ قميصًا لا يزيدُ ثمنهُ عن خمسة دراهم، ولقد دعاهُ الخلفاء إلى مصاحبتهم، فلم يَجِب دعوتهم لِخَشْيَتِهِ على دينِهِ من دُنياهم، لكنَّهُ مع ذلك كان يَثِبُ عليهم إذا وجدَ في ذلك فائدةً للمسلمين، أو خيرًا للإسلام
قال عثمان بنُ عطاء الخرساني: ((انْطلقْتُ مع أبي نريدُ هِشام بن عبد الملك، فلمَّا غدونا قريبًا من دمشق، إذا نحن بِشَيخٍ على حِمار أسْوَد، عليه قميص صفيق، وجبَّة، وقلنْسُوة لاصقة بِرَأسه، وركابه من خشب، فضَحِكْتُ منه، وقلتُ لأبي: مَن هذا؟! قال: اُسْكُتْ, هذا سيّد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح
فلمَّا قرُبَ مِنَّا نزلَ أبي عن بغْلتِهِ، ونزلَ هو عن حِمارِهِ، فاعْتنقَا، وتساءلاَ، ثمَّ عادا فَرَكِبَا، وانْطلقَا حتَّى وقفَا على باب قصْر هِشام بن عبد الملك، فلمَّا اسْتقرَّ بهما الجلوس حتى أُذِنَ لهما، فلمَّا خرج أبي قلتُ له: حدِّثْني بما كان منكما؟ فقال: بادرَ فأذِنَ له، وواللهِ ما دخلْت إلا بِسَبَبِهِ ، فلمَّا رآهُ هشام رحَّبَ به، وقال: مرْحبًا مرْحبًا، ها هُنا ها هُنا، أي تعال إلى جنبي، ولا زال يقول له: ها هُنا, هَا هُنا حتَّى أجْلسَهُ معهُ على سريرهِ, وإلى جانبِهِ تمامًا، ومسَّتْ ركْبتَهُ ركْبته، وكان في المجْلس أشراف الناس، وكانوا يتحدَّثون فسَكَتُوا
ثمّ أقْبلَ عليه هشام, فقال: ما حاجتُكَ يا أبا محمَّد؟ قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين ، أهل الله، وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلّم تُقسِّم عليهم أرزاقهم، وأُعْطِياتهم، قال: نعم، يا غلام, اُكْتُب لأهل مكَّة والمدينة بِعَطاياهِم وأرزاقِهِم إلى سنة، ثمّ قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ فقال: نعم, يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز، وأهل مجْدٍ أصْلُ العَرَب، وقادة الإسلام ترُدّ فيهم فُضول صدقاتهم، أيْ إذا جنَيت الصدقات منهم، الفضول أَبْقِها في بلادهم، فقال: نعم، يا غلام اُكْتُبْ بِأنْ تُردَّ فيهم فُضول صدقاتهم، قال: هل من حاجة غير ذلك يا أبا محمّد؟ قال: نعم, يا أمير المؤمنين، أهل الثُّغور يقفون في وُجوه عدُوّكم، ويقتلون من رام المسلمين بِشَرّ، تُجْري عليهم أرزاقًا تدرّها عليهم، هم بِحاجة إلى مساعدة، وهم إنْ هلَكوا ضاعت الثّغور، قال: نعم، يا غلام اُكْتب بِحَمْل أرزاقهم إليهم، هل من حاجةٍ غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين أهل ذِمَّتكم لا يُكلَّفون ما لا يُطيقون، فإنَّما تَجْبون منهم مَعونةٌ لكم على عدوّكم، أيْ لا تُكلِّفوا أهل الذمَّة ما لا يُطيقون، قال: يا غلام، اُكتبْ لأهْل الذمَّة ألاَّ يُكلَّفوا ما لا يطيقون، قال: هل من حاجةٍ غيرها يا أبا محمّد؟ قال: نعم، اتَّقِ الله في نفْسِكَ يا أمير المؤمنين، واعْلَم أنَّكَ خُلِقْت وحْدك، وسوف تموت وحْدك، وتُحْشرُ وحدك، وتُحاسَبُ وحْدك، ولا واللهِ ما معك أحدٌ مِمَّن ترى أمامك، حينما تموت، وحينما تُحشَر، وحينما تُحاسب
فأكَبَّ هِشامٌ ينْكت في الأرض وهو يبْكي, فقام عطاءٌ فَقُمْتُ معه، فلمَّا صِرْنا عند الباب إذا رجُلٌ قدْ تَبِعَهُ بِكِيسٍ لا أدري ما فيه، وقال له: إنَّ أمير المؤمنين بعَثَ لك بِهذا، فقال: هيْهات، وما أسألكم عليه من أجْرٍ إنْ أجريَ إلا على ربّ العالمين, فو الله إنَّهُ دخل على الخليفة، وخرج من عنده، ولم يشْرب قطْرةَ ماء
عُمِّرَ عطاء بن أبي رباح حتى بلغَ مئة عامٍ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا, قَالَ
عاش عطاء بن أبي رباح حتى بلغ مئة عام، ملأ حياته بالعلم والعمل، وأتْرعها بالبرّ والتقوى، وزكَّاها بالزُّهْد بما في أيدي الناس، والرغبة بما عند الله، وللهِ درُّ القائل حين قال
لا تسْألنَّ بُنَيّ آدم حاجــةً وسَل الذي أبوابهُ لا تُغلــقُ الله يغضبُ إن تركْت سؤالهُ وبنيّ آدم حينما يُسأل يغضبُ